إبعاد لبنان عن شبح اللائحة الرمادية غير محسوم: الثالثة ثابتة
لا يزال سيف وضع لبنان على اللائحة الرمادية من منظمة "فاتف" الدولية لمراقبة الجرائم المالية، مصلتا فوق رأس الدولة والقطاعات المالية والمصرفية والاقتصادية، لتعود التهديدات وأخطارها إلى المربع الأول الذي يحاول لبنان تجنبه.
هذا العود على بدء، سببه أن فترة السماح التي منحتها المنظمة العام الماضي للبنان وتنتهي بعد شهرين تقريبا، بطلب ومثابرة من مصرف لبنان، لم يتحقق خلالها أي من الوعود بالإصلاحات التي تعهدت الحكومة اللبنانية بتحقيقها. كذلك لم ينجح المجلس النيابي في إقرار ما يلزم من القوانين والتشريعات التي تحصن النظام المالي اللبناني، وتحميه من الاختراقات التي تهدد شفافيته والثقة الدولية به، إضافة إلى النقص في القرارات القضائية حيال المتهمين بتبييض الأموال.
مبررات العجز اللبناني عن مواكبة الإصلاحات معروفة سلفا لدى الجهات الدولية، وتبدأ بالشغور الرئاسي وأزمة التشريع التي تواكبها، وصلاحيات حكومة تصريف الأعمال، ولا تنتهي بالظروف الأمنية والسياسية المستجدة في الجنوب وغزة. بيد أن تكرارها لا يعني اقتناع "فاتف" بعدم قدرة الدولة على السير بالإصلاحات والقوانين المطلوبة، وإنقاذ رأسها وما بقي لديها من سمعة ورصيد عالميين، ناهيك بقطاع المصارف الذي سيدفع قبل الجميع "عزله" عن العالم وإخراجه من النظام المالي العالمي.
فدخول لبنان اللائحة الرمادية، يعني وضع نشاطه المالي والمصرفي تحت وصاية دولية أمنية ومالية، تكون مخولة إخضاع جميع عمليات تحويل الأموال من لبنان إلى الخارج للتدقيق في مصدرها، وأهداف تحويلها، وبياض إنتاجها، بما فيها عمليات التحويل التي تجريها الدولة اللبنانية ومصرف لبنان، بالإضافة إلى خطر وقف تعامل المصارف المراسلة مع المصارف اللبنانية، وقطع الطريق على دخول أي استثمارات وأموال جديدة إلى السوق اللبنانية.
لم يتأخر حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري في التحرك مجددا نحو المواقع المؤثرة جدا في قرارات "فاتف"، وقد زار لهذه الغاية أخيرا وزارتي الخارجية والخزانة الأميركية، وصندوق النقد والبنك الدولي، في محاولة منه لإقناع أصحاب القرار لديهم بأن الإجراءات والخطوات التي يقوم بها مصرف لبنان والمصارف، تتماهى مع مطالب "فاتف" في التزام القوانين الدولية ومعايير الشفافية.
وشدد منصوري على أن وضع لبنان على اللائحة الرمادية هو ضرب لجهود المركزي، وتعزيز لفرص تفشي تبييض الأموال، وعزل مالي واقتصادي لبلد يحاول بما بقي لديه من سيولة وإمكانات الخروج من أسفل درك الانهيارين النقدي والسياسي الذي وقع فيهما.
وفق مصادر المركزي، نجح منصوري في إقناع البعض بلقاءاته الاميركية، وفشل مع البعض الآخر، بيد أنه لم يتمكن كليا من ضمان "الدخان الأبيض" ونيل الموافقة على تأجيل الإحالة إلى اللون الرمادي مرة أخرى. واستطاع الحاكم بالإنابة انتزاع تعهد لم تتضح كامل تفاصيله حتى الآن، يتضمن التزاما من مجموعة العمل الدولي بعدم قطع الشريان المالي والسيولة عن لبنان، وتحييد الأنشطة المصرفية العادية عن أي إجراءات عقابية محتملة. وهذا يشي بأن وضع لبنان على اللائحة الرمادية لا يعدو كونه قرار حث وضغط على السلطات اللبنانية للتنبه لمخاطر لامبالاتها وتقاعسها عن إجراء ما يلزم لحماية نظاميها المالي والمصرفي، وإنقاذ شعبها من قساوة المعاناة الاقتصادية.
الجهد الذي بذله مصرف لبنان كبير جدا حيال الإجراءات المطلوبة من القطاع المصرفي، خصوصا ما يتعلق منها بآليات جديدة لضمان امتثال جميع المصارف والمؤسسات المالية للعقوبات التي تفرض على الكيانات والأفراد. إلا أن ما يواجهه البنك المركزي من استلشاق واستهتار من الإدارات والمؤسسات العامة الرسمية يزيد إرباكات تعامله مع المؤسسات الدولية ويضعف مراسلاته وتقاريره، فيما هو أحوج ما يكون في منازلته مع الخارج إلى دعم مطلق من الدولة وإداراتها. ولم يكن تقاعس الإدارات المعنية عن تزويده أخيرا ما طلبه من معلومات وأرقام لزوم تقاريره ومفاوضاته، بالعمل المساعد والداعم له، بل أدى ذلك إلى إصدار تقارير غير مكتملة المحتوى وفق ما هو مفترض.
تفاصيل لقاءات منصوري؟
ماذا في تفاصيل لقاءات منصوري، وما لمسه من معطيات حيال التحضيرات للتقييم الجديد لمجموعة العمل المالي (فاتف)، لتحديد تصنيف لبنان على مستوى مخاطر تبييض الأموال؟ وهل نجح في صنع "لوبي" داعم للبنان، يجنبه اللائحة الرمادية؟
وفق المعلومات، فإن لقاءات الحاكم بالإنابة تنوعت في واشنطن مع مسؤولين في صندوق النقد، والبنك الدولي، وزارة الخارجية الأميركية، والخزانة الأميركية، وكانت إيجابية جدا، ولكن يبقى القرار النهائي رهنا باجتماع كل أعضاء المجموعة.
وفي حين تبقى الأمور مفتوحة على سيناريو إبعاد لبنان عن اللائحة الرمادية أو وضعه عليها، حصل منصوري على تأكيدات أن لا تأثير على العلاقات مع المصارف المراسلة في كلا السيناريوهين، وهو ما سيستتبعه منصوري باجتماعات مع مسؤولين في المصارف المراسلة لإبقاء المسار المالي اللبناني معهم قائما من دون أي تأثير. علما أن منصوري يبدو مطمئنا حيال هذه الناحية بحيث يكون السيناريو الثاني من دون آثار عملية على التحويلات المالية وغيرها.
منصوري شرح للوفود التي ألتقاها عنوانين أساسيين:
- أهمية الإجراءات التي قام بها المصرف المركزي والمصارف، بما ينسجم مع القواعد الدولية في شأن المسارات المالية والتحويلات وتبييض الأموال.
- وضع لبنان على اللائحة الرمادية، أي تعزيز التهرب الضريبي وزيادة تبييض الأموال والتفلت المالي من القيود، وضرب جهود المركزي في هذا المجال.
ووفق المعلومات، فقد تجاوبت الوفود التي التقاها بالمفرق، مع طرح منصوري. وهي إذ أبدت إيجابية في التعامل مع هذا الملف، لم تخف لومها من تقصير الدولة اللبنانية التي لم تقم بإجراءات عملية، سواء على صعيد الحكومة أو القرارات القضائية وتشريعات المجلس النيابي.
وما سمعه منصوري من بعض تلك الوفود كان حاسما "أي إجراءات بشأن اللائحة الرمادية لا تعني سلبية تجاه دور المركزي، بل هي لحض الدولة اللبنانية على العمل الإصلاحي المطلوب".
منصوري الذي كان مصرّا على أن أي إجراء في اتجاه وضع لبنان على اللائحة الرمادية سيضر بجهود المركزي، مع ضرورة إعطائه فرصة ثالثة بعدما أعطي فرصتين في الخريف والربيع الماضيين، واجه أسئلة عما أنجزته الدولة على صعيد الإصلاحات عموما، وتحديدا في موضوع مكافحة الفساد، والقرارات القضائية التي لها علاقة بملفات تبييض الأموال، إضافة إلى موضوع المجموعات شبه العسكرية (paramilitary groups) التي يبدو أن لا حل له في الوقت القريب، وهل يمكن أن تنجز الدولة المطلوب منها خلال ستة أشهر؟
وكان منصوري قد راسل المعنيين في الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة المتحدة التي لمس منها الدعم المؤكد في التقرير الذي سيصدر عن المجموعة في تشرين الأول المقبل. أما القرار النهائي بوضع لبنان على اللائحة الرمادية أو عدمه فسيتحدد في أيلول المقبل، بعد أن تكون اكتملت الاجتماعات بين جميع الأعضاء.
يمكن الاستنتاج أن منصوري نجح في تكوين "لوبي" مالي دولي داعم لرأيه، ومالت الأمور في شكل غير محسوم إلى تجنيب لبنان اللائحة الرمادية، لكن القرار سيكون رهنا بالاجتماع المقبل حيث تحضر حسابات الدول أيضا في شأن التعامل مع الملف اللبناني، فيما تتخوف مصادر من وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية، وتاليا تشدد الإدارة الأميركية تجاه لبنان.
المصدر - النهار