إخضاع غزة أكبر بكثير من مسألة تفوق في ميزان قوى
دخلت الحرب على غزة أسبوعها الرابع دون أن تتضح معالم أي تسوية أو ترتيبات لوقف إطلاق النار. ضراوة القصف الإسرائيلي غير المسبوق والإمعان في تدمير أبسط مقومات الحياة في القطاع وسقوط أعداد كبيرة من الشهداء ناهزت العشرة آلاف لا تبدو كافية لعودة الحياة الى المؤسسات الدولية والتحرر من تبعية سياسية فرضتها أحادية تتحكم بنظام دولي يمتثل له الجميع. أما طروحات العدو الإسرائيلي بنقل أهل القطاع الى صحراء سيناء للقضاء على مقاتلي حماس فليست سوى محاولة لتحويل القطاع الى مقبرة جماعية بمباركة عربية وشرعية دولية.
يضع مشهد غزة المصبوغ بدماء الأطفال قادة العدو أمام حقيقة لا لبس فيها وهي فشل العنف المتمادي في تغيير الوضع الميداني، ويتزامن ذلك مع استحالة إيجاد خيارات أخرى دون التسليم بالهزيمة وتحمّل تبعاتها وأقلها عودة حماس بنسخة أكثر قوة. في الوقت عينه يضع المشهد عينه القادة العرب أمام استحقاق تحمّل تبعات التجاوب مع طروحات العدو لما يرتبه ذلك من مسؤولية تاريخية ستلقي بتداعياتها على الوضع العربي برمّته وستتحمل الأجيال القادمة نتائجها..
تتشابك مكونات الصراع في غزة بشكل بالغ التعقيد، تصر إيران بشكل يومي على النأي بنفسها عما يجري في غزة منذ إنطلاق عملية طوفان الأقصى ويتيح حزب الله المجال لقوات الفجر (الجناح العسكري للجماعة الإسلامية) وكتائب القسّام بتوجيه ضربات صاروخية من جنوب لبنان نحو الراضي المحتلة، فيما تؤكد في الوقت عينه على موقعها في المشهد الفلسطيني تمهيداً للإنتقال في اللحظة المناسبة من موقع الرعاية العقائدية لحماس الى موقع الإستثمار السياسي والشراكة في الوضع النهائي.
من جهة أخرى تعتقد إسرائيل أن بامكانها استعادة مكانة جيشها وفرض شروطها من خلال عملية عسكرية ودون تقديم أي تنازلات سياسية تتعلق بتنفيذ القرارات الدولية والسير بحل الدولتين، هذا فيما تقف دول الخليج العربي ومصر أمام عدم القدرة على وقف التدمير المستمر لغزة وتعذّر فتح كوة في جدار الأزمة بفعل عدم وضوح الأهداف السياسية التي أدت الى انطلاق الحرب في 7 أكتوبر. هذا ما يفسره تعثر الوساطة التي تقودها جمهورية مصر العربية ودولة قطر لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى حماس مقابل إطلاق سراح الموقوفين الفلسطينيين لدى إسرائيل ومنهم قادة حماس، وهو ما أدى إلى مزيد من الضغط العسكري وإطلاق العملية البرية، وهذا ما قد يفضي الى تعويم حركة حماس وتقديم فرصة مجانية لطهران لتعزيز نفوذها في القطاع. وفي هذا السياق يضيف إصرار الحزب الديمقراطي على الفوز بالإنتخابات الرئاسية في العام المقبل للبقاء في البيت الأبيض وإصرار بنيامين نتانياهو على إنقاذ مستقبله السياسي مزيداً من التعنت في المواقف بما يطيل أمد الحرب ويرفع حدود المغامرة.
في مطلق الأحوال، لقد أضحت الحرب الدائرة في غزة محكومة بمجموعة من الضوابط أهمها إنضواء جميع الأطراف الإقليميين تحت سقف معادلة أميركية صارمة يعبّر عنها تنصل إيراني من كل ما جرى في غزة من جهة وارتباك عربي ملتبس ودعم أوروبي مطلق من جهة أخرى، وتفرض قواعدها حاملات الطائرات الأميركية والبوارج الحربية المنتشرة في البحر المتوسط والبحر الأحمر. هذا الإنضباط الإقليمي والدولي يعني بأن هذه الحرب هي آخر فصول المواجهة المسلّحة بين إسرائيل ومحيطها، كما يعني التسليم بتداعياتها وبالتحولات الجذرية في مستقبل المنطقة وإعادة رسم خرائط النفوذ وضبط الرهانات السابقة في كنف البوارج الاأميركية التي يبدو أنها لن تبارح المنطقة لكنها.
يشكّل طوفان الأقصى النكسة العسكرية الأسوء في تاريخ إسرائيل بعد سقوط خط بارليف في أكتوبر 1973. الحدثان بالرغم من الفارق في الأبعاد الجغرافية لميدان المعركة أفقدا العدو توازنه خلال ساعات قليلة وأصابا قادته بالذهول وأسقطا أكذوبة الجيش الذي لا يقهر. في الحدثان إضطرت الولايات المتحدة للتدخل وتزويد إسرائيل بالمعدات والذخائر لإعادة التوازن للجيش، وفي الحدثين أيضاً هددت الولايات المتحدة بالتدخل العسكري لإنقاذ إسرائيل.
في أكتوبر 1973 أيقنت الولايات المتحدة أن إسرائيل لا تستطيع الدفاع عن نفسها، فكان لا بد من وقف فوري لإطلاق النار تحت وصاية واشنطن وموسكو، بموجب قرار مجلس الأمن رقم 338 بتاريخ 26 أكتوبر/تشرين الأول 1973. بعد أكتوبر 1973 كان لا بد من إخراج مصر من الصراع لطمأنة إسرئيل فكان توقيع إتّفاق كامب دايفيد في 17 أيلول/ سبتمبر 1978 كإطار لإبرام معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في سنة 1979.
بعد طوفان الأقصى ستتيّقن الولايات المتحدة للمرة الثانية أن إسرائيل أعجز من أن تحمي نفسها وأن اجتياح القطاع في حال نجاحه لن يفضي سوى إلى مزيد من الإنهيار أمام حقائق التاريخ وثوابت الجغرافيا وسيتأكد المنظّرون أن إخضاع غزة أكبر بكثير من مسألة تفوق في ميزان القوى.
العميد الركن خالد حماده - اللواء