حزب الله ومأزق حرب الإستنزاف
وضعت عملية طوفان غزة العالم أمام اختبارات غير منتظرة. أدرك الغرب برمّته في ضوء وقائع الميدان أزمة إسرائيل الوجودية وحقيقة قدراتها العسكرية، فآثر قادته إعادة النظر بكل المواقف المرتجلة خلال الأيام الأولى لاندلاع الحرب، لتنخفض معها سقوف التوقعات والأهداف المعلنة درءاً لما يمكن أن تحمله السنوات القادمة من تطورات غير متوقعة. لقد اختبر الغرب أنّ التعايش القسري بين مقولة حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها بالتزامن مع الإصرار على تجاهل حق الفلسطينيين في دولة مستقلة دونه تحديات كبيرة، ليس أقلها استحالة حماية الأمن القومي للدولة التي غصت شوارعها بآلاف المتظاهرين الساخطين حيال ازدواجية المعايير في التعامل مع القضية الفلسطينية. بدورهم، اختبر قادة العالم العربي محاذير المغامرة بالحصرية العربية للقضية الفلسطينية لصالح توافقات وتحالفات إقليمية /دولية وتداعيات المواجهة مع الوجدان العربي العارم الذي ألهبته إنجازات المقاتلين في غزة.
إزاء تقلص الدعم الدولي، أخذت القيادات الإسرائيلية تقارب الموقف الميداني وتقيّم التهديدات بالموضوعية اللازمة وتضع أهدافاً أكثر تواضعاً لحربها على قطاع غزة. يقول اللواء أفرايم هليفي، الرئيس الأسبق للموساد «من المؤسف أن كثيراً ممن يتولون المسؤولية الآن لا يعرفون حماس بشكل حقيقي، ولا يعرفون غزة، ولا يجيدون قراءة خريطة الشرق الأوسط . ويضيف:«من يتحدث عن سحق حماس، لا يعرف عما يتكلم. حماس تنظيم كبير وقوي ولديه عزم وإصرار.... وهو ليس تنظيماً سياسياً وعسكرياً فحسب، بل فكر وقناعات. وإذا قضيت على قيادتهم وحتى على تنظيمهم كله، وهذا غير واقعي، فإنك لا تستطيع القضاء على فكرهم» ، ويخلص: « بالتأكيد يجب ضرب حماس، ولكن لا حاجة لوضع هدف غير واقعي بالقضاء عليها، بل يجب التفاوض معها والتوصل إلى تفاهمات وفقاً لخدمة مصالحنا الوطنية»
في الموقف الأميركي: أمام كلّ ذلك وجدت الولايات المتحدة نفسها أمام اختبار قدرتها على التمسك بأمن إسرائيل وهو التزام بنيوي يقع في صلب سياستها وتجنب المغامرة في الوقت عينه بخسارة حلفائها وأصدقائها في الشرق الأوسط في ظلّ حقيقة ساطعة أن إسرائيل لم تعد قادرة على حماية نفسها.
تشعر الإدارة الأميركية بالقلق إزاء الزعم الإسرائيلي باجتياح قطاع غزة وتداعياته المحتملة، وحجم الخسائر المدنية المترتبة على ذلك، سيما أن ثمة شكوكاً أميركية بقدرة إسرائيل على الإنتصار، وتساؤلات حول ضبابية الموقف لمرحلة ما بعد الغزو. البراغماتية الأميركية حيال الواقع الجديد عبّر عنها الرئيس الأميركي جو بايدن يوم أمس لشبكة «سي.بي.إس» إن إسرائيل سترتكب خطأ كبيراً إذا احتلت غزة مشيراً إلى أنه لا يرى ما يدعو لمشاركة قوات أميركية في الصراع الدائر حاليا بين إسرائيل والفلسطينيين. بدوره أعرب وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن عدة مرات خلال جولته العربية إن «المستقبل الأفضل للفلسطينيين والإسرائيليين هو حلّ الدولتين».
في الموقف العربي: وفي جهد حثيث لقطع الطريق على وضع ما جرى في غزة في الإستثمار الإقليمي والتمسك بالإلتزام العربي بالقضية الفلسطينية، أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في لقائه مع وزير الخارجية الأميركي، أن التأخير في حلّ القضية الفلسطينية هو ما «أدى إلى تفاقم الغضب وأنّ عدم اتّخاذ التدابير اللازمة بشكل فوري سيؤدي الى تدخل أطراف إقليمية في إشارة واضحة الى طهران»، معتبراً أن رد الفعل الإسرائيلي الحالي «تجاوز مبدأ حق الدفاع إلى العقاب الجماعي». وفي هذا السياق، دعت مصر في ختام اجتماع عقده مجلس الأمن القومي المصري برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي، لاستضافة قمّة إقليمية ودولية حول القضية الفلسطينية، في محاولة من القاهرة لـتحميل كافة الأطراف المعنية مسؤولية التدهور الراهن ووضع حدّ لإشكالية التباين في الرؤى بين المواقف العربية والدولية، واستغلال الأزمة لرسم خطوط عريضة لتسوية نهائية. هذا وتنعقد اليوم (17 أكتوبر /تشرين الأول 2023) في مدينة مسقط بسلطنة عمان الدورة الإستثنائية الثالثة والأربعين للمجلس الوزاري لـ»مجلس التعاون لدول الخليج العربية»، للتداول في تطورات الأوضاع في قطاع غزة.
في الموقف الإيراني: تزامنت زيارة وزير الخارجية عبد الامير اللهيان الى المنطقة مع زيارة أنطوني بلينكن، وفي هذا إشارة واضحة لترسيم حدود التقاسم الأميركي الإيراني في المنطقة من وجهة نظر طهران. اعتبرت طهران أن الموقف المتأزم في غزة يشكل مدخلاً لها للعب دور الوسيط والمفاوض الناجح من خلال قدرتها على السيطرة على أذرعها والتحكم بخياراتهم.
فخلال مؤتمر صحافي عقده في مقرّ السفارة الإيرانية في بيروت منح اللهيان لنفسه الحرية في تقدير الموقف ووضع السناريوهات المحتملة فيما ألقى على حزب الله وفصائل الممانعة مسؤولية اتّخاذ القرار. يقول عبد اللهيان :«في حال توسيع نطاق الحرب فإنّ المقاومة اللبنانية هي التي ستقرّر ما ستفعله، .... إنّ الإعلان عن ساعة الصفر لأيّ إجراءٍ مُقبل في حال استمرار جرائم كيان الإحتلال هو بيد المقاومة في لبنان». وأضاف «أنّ الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله رجل الميدان ولطالما كان له الدور الأبرز في تحقيق أمن لبنان والمنطقة. وبهذا المعنى فقد وجّه اللهيان رسالتين بإتّحاه الولايات المتّحدة وإسرائيل. الأولى وضع حزب الله في صدارة فصائل المقاومة التي تدور في فلك طهران، والثانية استعراض قدرات طهران في التأثير على قرارات حزب الله.
يتراجع الخيار العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة أمام الضغوط الدولية والصعوبات الميدانية، لصالح استمرار حرب الإستنزاف على حدوده مع إسرائيل لفترة لا تبدو قصيرة ريثما يتمّ استكمال الترتيبات للإنتقال الى وقف لإطلاق النار. وفيما يهدف الإصرار العربي على استيعاب ما جرى وإبقاء الصراع في غزة ضمن حاضنته العربية واستثمار الفرصة للإنطلاق نحو مباحثات نهائية لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي وتحقيق حلّ الدولتين، تعبّر طهران عن إصرارها على إلحاق غزة بمناطق نفوذها وعبرها الى شراكة في تسوية الملف الفلسطيني عن طريق إشعال الجبهة على الحدود اللبنانية الجنوبية التي تريدها امتداداً لجبهة غزة.
وعلى وقع الطموح الإيراني يبدو أن الطريق الى غزة تمرّ من جنوب لبنان وأنّ الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله الذي وصفه الوزير اللهيان برجل الميدان والذي كان له الدور الأبرز في تحقيق أمن لبنان والمنطقة مرشّح لقيادة حرب استنزاف طويلة الأمد على الحدود اللبنانية الجنوبية.
العميد الركن خالد حماده - اللواء