وهل تستحق إسرائيل الموت من أجلها؟
تصدّر طوفان غزة المشهدين الشرق أوسطي والدولي بما لا يتيح المجال لأي حدث آخر، الغرب الذي تقوده الولايات المتحدة والذي طالما تباهى بالعبث بخرائط المنطقة وإعادة ترسيمها وبوضع الحدود بين إثنياتها وأقلياتها وتشكيل دولها، وقف مشدوهاً أمام مئات المقاومين الفلسطينيين الذين أسقطوا في صباح يوم مجيد تقنياته العسكرية وراداراته وأنظمة دفاعه الرقمية وآلته العسكرية التي وضعت لحماية كيان غاصب. تصدّرت طائرات الفلسطينيين الشراعية قرص السماء وداس المقاتلون بأقدامهم الصلبة وعقولهم الحالمة بالعودة الى أرض فلسطين حواجز القهر في محيط غزة، وأذلوا قادة العدو وجنوده وأسقطوا أسطورة الجيش الذي اعتقد العالم أنه لا يقهر.
إن الدروس المستفادة من المشهد الفلسطيني بعد ثلاثة أيام من القتال تضعنا أمام الحقائق والمحاذير التالية:
أولاً، تعذّر تغيير النتائج الميدانية الباهرة التي حققتها المقاومة الفلسطينية وتعديل نتائج الإخفاق الإسرائيلي الواضح على مستوى الإستعلام العسكري واستخدام قوى الإحتياط والتخطيط وإتخاذ القرار في موقف عملياتي حرج. هذا ما يؤشر الى إطالة أمد الصراع قبل تبلور نتائج كافية تؤدي الى صيغة لوقف إطلاق النار، إذ لم تستطع القوات الإسرائيلية حتى الآن استعادة زمام المبادرة، وكل ما تحاوله عبثاً من خلال القصف التدميري للقطاع هو لملمة أذيال الهزيمة أو إعادة الثقة الى قادتها وجنودها فيما تتحشد دباباتها الثقيلة على مشارف القطاع بانتظار ضوء أخضر أميركي قد يأتي وقد لا يأتي.
ثانياً، إن التداعيات المرتقبة حيال الإندفاعة الأوروبية لحماية إسرائيل قد تؤدي الى إعادة النظر بأسّس العلاقات الأوروبية العربية ومستقبلها وقد تعقد الموقف الدولي. إنّ تعليق المفوضية الأوروبية لمساعدات التنمية للفلسطينيين وإعلان وزير خارجية النمسا، ألكسندر شالنبرج تعليق المساعدات للضفة الغربية والقطاع رداً على الهجوم الذي شنّته فصائل المقاومة الفلسطينية وررفع العَلَم الإسرائيلي فوق مكتب المستشار النمساوي ووزارة الخارجية، إنما تدل أن الدول الاوروبية سواء الوازنة منها أو أمبراطورياتها التي انكفأت عن المسرح الدولي منذ الحرب العالمية الأولى لم تغادر تاريخاً استعمارياً طُويت صفحته، وأن الحنين لاستعادته لم يغادر مخيّلة قادتها.
إن المجاهرة الأوروبية باعتبار ما جرى إعتداء يجيز لإسرائيل الدفاع عن نفسها، وليس وليد عقود من الممارسات العنصرية والإعتداء على المقدسات والقهر والتنكيل وجرف المنازل ومصادرة الأراضي الزراعية وتجاوز القرارات الدولية، يؤكد أن القوى الغربية ليست مؤهلة للتعامل مع عالم عربي وأن قيّم الحرية والمساواة وقبول الآخر التي قامت عليها أوروبا الجديدة ليست سوى تسويقاً اقتضته الأدبيات السياسية في القرن العشرين لعنصرية جديدة تمارس باسم حقوق الإنسان كما أن المؤسسات الدولية ليست سوى أُطراً شكلية للتحكم يمستقبل الشعوب وتققيد نهضتها.
ثالثاً، إنّ اتّخاذ القرار بالدخول الى غزة دونه تقييدات كثيرة تتجاوز التفاوت في ميزان القوى الكمّي بين الحشود العسكرية وقدرات المقاومين الدفاعية. تدرك الإدارة الأميركية أن حلفاءها العرب لن يقفوا موقف المتفرج أمام اجتياح غزة، ولن يغامروا حكماً باستقرارهم الداخلي ثمناً لسياسات إسرائيلية رعناء. إن حادثة إطلاق النار من قِبل أحد رجال الشرطة في الإسكندرية على سيّاح إسرائيليين قد تصبح نموذجاً قابل للتكرار في عواصم ومدن عربية يرتادها إسرائيلون وقد تنتقل الى عواصم ومدن أوروبية وأميركية، وربما يصبح الجنود والمواقع الأميركية في أكثر من بلد عربي أهدافاً مشروعة للرد على سيناريوهات جنونية مفترضة.
إن الإخفاق العسكري ليس سوى نتيجة طبيعية للإخفاق السياسي الذي تعيشه إسرائيل العاجزة عن تحديد ماهيّة ومبررات وجودها. إن إعلان إسرائيل دولة ليهود العالم لا يقدم مبرراً كافياً لوجودها، وهل يمكن لهذه العدائية الدائمة حيال محيطها العربي أن تشكل دوراً مقنعاً قابلاً للإستمرار تُبنى من أجله المؤسسات. إن المأزق الوجودي لدولة إسرائيل هو في استحالة الإجابة عن القيمة المضافة التي قدّمتها لى مستوى العلاقات مع دول الجوار أو على مستوى القيّم الإنسانية. إن هشاشة وفشل المؤسسات الأمنية في إسرائيل وفي مقدّمها الجيش هو نتاج لهشاشة سياسية وأخلاقية وإنسانية لا تصنعها الجيوش الجرارة ولا تصنعها الإقتصادات الكبرى. ربما يتساءل القادة العسكريون في إسرائيل لماذا نحمي هذا الكيان المأزوم بشكل دائم وهل تستحق إسرائيل الموت من أجلها.
العميد الركن خالد حماده - اللواء