جوزف عون مرشّح "الخيار الثالث"... خيارُه الصمت
على الجدار، في الردهة أمام مكتب قائد الجيش العماد جوزف عون في اليرزة، لوحةٌ لعاشقِ «التجربة اللبنانية» بحُلْوها ومُرِّها، المبدعُ البريطاني توم يونغ، الذي «طار» يوماً على ارتفاع 2300 متر عن سطح البحر وعادَ بلوحةٍ سحرُها في «سرٍّ» اسمُه الجيشُ اللبناني.
غالباً ما يصطحب «القائد» زوارَه، من ديبلوماسيين وسياسيين وقادة رأي وسواهم، إلى لوحة يونغ، وكأن في طقوسها وخطوطها وألوانها «جدول الأعمال» اليومي للعماد عون، الممنوع من المرض ومن السفر ومن التعب، لأن ما من أحد سواه يمكنه إدارة الجيش.
في اللوحةِ موقعٌ للجيش في أعلى نقطةٍ مأهولة على الحدود اللبنانية مع سورية، «تَسَلَّلَ» إليها بشغفه الرسامُ البريطاني، الذي دوّن بالعين والريشة حكايةَ الجندي المرابط في الحرِّ والبردِ فوق جغرافيا لا يضاهيها وعورة سوى حال لبنان المتروك في صراع بقاء.
القائد، الذي ارتدى المرقّط للمرة الأولى العام 1983، يتولى «شَرْحَ الصورةِ» لزواره وكأنه يضعُ الأصبع على الجرح... النزوحُ السوري، الوقودُ لآليات الجيش، صيانةُ الطوافات، الحدّ الأدنى من الحياة الكريمة للعسكريين وعائلاتهم، حملاتُ النيل من المؤسسة العسكرية، والاستقرارُ الذي يُعانِدُ الفراغ.
لم يتردّد عون، الذي تولّى قيادةَ الجيش في العام 2017 في وصْف الموجةِ العاتيةِ من النزوح السوري إلى لبنان بـ «الخطر الوجودي». كلامٌ قاله في اجتماعٍ وزاري ويردّده أمام زواره على وقع بياناتِ المؤسسة العسكرية المتوالية عن كبْح جماحِ متسلّلين من سورية وردّهم إلى بلادهم.
... هذا برجُ مراقبةٍ على السفحِ بُني في إطار المشروع البريطاني، كلفته نحو 500 ألف دولار، وعلى مرمى حَجَرٍ منه موقعُ للجيش اللبناني لا تصله المؤن في الشتاء إلا بالطوافات التي تحتاج صيانتها الآن إلى 10 ملايين دولار، فيما الجيش كسائر «المودعين» في البلاد يعاني تداعيات الأزمة المالية - النقدية.
ورغم رفْع مستوى التحوط العسكري والاستخباراتي الذي يعرّج عليه قائد الجيش في كلامه أمام المسؤولين أو في مكتبه في إطار إظهار السعي الحثيث لضبْط الحدود التي تحوّلت برمّتها «معبراً غير شرعي»، فإنه لا يفشي سراً بأن نحو ثلاثة آلاف عسكري منتشرين الآن على الحدود مع سورية في محاولةٍ لردّ «هجمة» النزوح وأخطارها عن البلاد.
وغالباً ما يدير عون «الأُذُنَ الطرشاء» لحملاتٍ سياسيةٍ تطلّ من حين إلى آخَر من على الشاشات والمَنابر، تفتح النارَ على الجيش وتحاول النيلَ من مكانته على رأس المؤسسة العسكرية، تارةً من خلال الحديث عن الفساد وتارةً عبر اتهامه بتسهيل النزوح، لكنه كَسَرَ الصمتَ مرةً وقال بالفم الملآن «أعان الله جيشاً يحارب الغباءَ والغلاءَ والوباء وقلّة الحياء والوفاء».
وعلى قاعدةِ «إذا عُرف السبب بطُل العجب» ثمة مَن يعتقد أن الحربَ السياسيةَ المفتوحةَ على قائد الجيش من جهاتٍ بعيْنها، مردُّها إلى التداول باسمه كمرشحٍ جدي لرئاسة الجمهورية بعدما مَضى على «احتلال» الفراغ لقصر بعبدا نحو عامٍ لم تفلح خلاله مساعي الداخل والخارج في الإفراج عن الكرسي الأول.
يُعانِدُ العماد عون محاولاتِ استدراجه الدؤوبة إلى المماحكات السياسية وأزقّتها، ويُعْلي الهمَّ الوطني على ما عداه. يَقرأُ ويَسْمَعُ ويُشاهِدُ ما يثار في شأن الاستحقاق الرئاسي المعلَّق منذ أمدٍ والتداول باسمه كخيارِ إنقاذٍ وسطَ الانقسامِ الحادِ الذي يكاد أن يشلّ الدولةَ وآليات الحُكْمِ ويجعل البلادَ فوق فوهة المجهول.
لا يعلّقُ، لا يعقّبُ، لا يُجادِلُ في أي مسألةٍ ترتبط بموقعه في سياق الانتخابات الرئاسية رغم أن زواراً نقلوا عنه يوماً انه «إذا انتهت الأمور إلى الاتفاق على شخصه فإنه لن يرفض حَمْلَ المشعل (...) فالرئاسة بالنسبة إليه ليست طَمَعاً بلقبٍ بل هدفٌ وطنيٌّ سامِ (...) فالمطلوبُ رئيسٌ إنقاذي ينتشل لبنان ويعيده إلى دوره».
يكاد أن يكون العماد عون اليوم «رئيسَ جمهوريةِ» الجيش، الذي يشقّ الطرقَ في الأعالي، يُجْري مسوحاتٍ للأملاك البحرية ولـ «مآثر» الكسارات، وللمباني المتصدّعة، يوزّع المساعدات حين تدعو الحاجة، يؤازرُ في عملياتِ إطفاء الحرائق في الغابات... كل ذلك وسواه بعدما فُقدتْ الثقةُ بأجهزة الدولة والمؤسسات التي يَنْخُرُها الفساد.
فلبنان، الذي يكره «العسكريتاريا» يحب «جمهورية الجيش» بعدما تحولت المؤسسةُ العسكريةُ الحصنَ الأخير للأمن الأمنيّ وللأمان الاجتماعي... فالجيشُ جنوباً يؤازر «اليونيفيل» ويَمنع إسرائيل من مدِّ يدها، ويَمْضي بصلابةٍ في العمل على إظهار الحدودِ المُرَسَّمَةِ والانتهاء من النقاط الـ 13 الملتبسة نقطةً نقطة.
هذه «الجمهورية» التي تُفاخِرُ بأنها طردتْ «داعش» مع عملية «فجر الجرود» صيف العام 2017، ووأدتْ الفتنةَ في قبرشمون في 2019 وحَمَتْ سلميةَ انتفاضة اللبنانيين في أكتوبر من العام نفسه... حاصرتْ أخيراً حريقَ مخيم عين الحلوة، وأطفأتْ مثيلَه في الكحالة، وأخمدت آخَر في الطيونة وتستمرّ العينَ التي لا يَغمض لها جفن.
ورغم مرارةِ «القصف» الذي يتعرّض له الجيش من «بيت أبيه»، أي من أطراف داخلية ولأجنداتٍ سياسيةٍ جرّبتْ حظَّها في الحُكْمِ على مدى أعوام، فإن همَّ قائده واهتماماته في مكان آخَر... في التأكيد الأميركي على ديمومة الدعم للمؤسسة العسكرية، والاطمئنان إلى رسو باخرة الفيول الآتية هِبَةً للجيش من قطر.
رسالةٌ نصيةٌ تردّ إشاعةَ وَقْفِ المساعدات الأميركية على أعقابها، فالجيشُ شريكُ إستراتيجي للولايات المتحدة. أما مِنحة المئة دولار لكل عسكريّ فمازالت على ما هي وفق برنامج UNDP لمدة ستة أشهر لم يَبْقَ منها إلا شهران. وثمة جهودٌ من الدول المانحة للتفاهم على بدائل وحِفْظِ ديمومة المساعدة على هذا المستوى.
المسافةُ بين اليرزة حيث مقرّ قيادة الجيش، وبين قصر بعبدا الرئاسي قصيرةٌ جداً. شرفاتُهما على مرمى العين، ويحلو للبعض في لبنان القول إن من الطبيعي ألّا يشذَّ اسمُ العماد جوزف عون على لائحة المرشّحين للرئاسة عن تاريخِ قادة الجيش في لبنان في حصْد لقب «فخامة العماد». فمنذ ان انتُخب اللواء فؤاد شهاب عام 1958 رئيساً للجمهورية وأسّس لمدرسةٍ سياسيةٍ عُرفت بـ«الشهابية»، أصبحوا يَطمحون لتكرار التجربة.
خارج اليرزة وصمْتها، يُقال الكثير عن عون وحظوظه الرئاسية كخيارٍ ثالثٍ لا مفرّ منه لإنهاء الشغور القاتِل في رأس الجمهورية... دَعْمٌ من الخارج وفي الداخل في انتظار نضوج مناخاتٍ ما لفكّ أسْر الرئاسة في لبنان.
فالرجلٌ، الذي لم يتغيّر، بشهادةِ عارفيه قبل المرقّط وبعده، حاز عبر معمودية التجربة القاسية على رأس المؤسسة العسكرية، ثقةَ الدول التي تحرص على إنهاء المحنة اللبنانية الكبرى، ونجح في الداخل بتمكين الجيش والبلاد من اجتياز اختباراتٍ قاسية وصعبة في لحظةِ الأزمات الشاملة والانفجار الهيروشيمي في مرفأ بيروت.
وثمة تقارير عن أن مجموعة الدول الخمس وموفديْها، الفرنسي جان - إيف لودريان والقطري جاسم بن فهد آل ثاني، صارت أكثر رغبة في الدفْع باتجاه دعْم العماد عون كمرشّحٍ للرئاسة واسمُه الحركي «الخيار الثالث».
وثمة مَن يعتقد أن أطرافاً داخلية وازنة تؤيّد عون أو لا تمانع وصوله، وفي مقدّمها «حزب الله» الذي يُكْثِرُ أمينُه العام السيد حسن نصرالله من الإشادة بالجيش وقائده في مَجالسه ولا سيما بعد حادثة الكحالة التي حفظتْ السلم الأهلي.
وسام أبو حرفوش - الراي الكويتية