الخيار الثالث يشقّ طريقه: أصبح ضرورة بعد عام على بدء المهلة الدستورية
المعادلة الرئاسية في لبنان داخلية وخارجية، ومع إعلان الخارج كلمته بأنه مع الخيار الثالث وعدم قدرة الفريق المحلي الرافض لهذا الخيار ان يبدِّل المعطيات الداخلية، فهذا يعني انّ خيار الخماسية بدأ يشقّ طريقه.
حسمت اللجنة الخماسية المعنية بالملف اللبناني وتحديداً الرئاسي قرارها وخيارها وأبلغت القوى السياسية، إن مباشرةً عبر الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان في زيارته الأخيرة أو مداورة من خلال القنوات الديبلوماسية لعواصم الخماسية، ثلاث رسائل أساسية:
الرسالة الأولى: انّ المبادرة الفرنسية بصيغتها الأولى انتهت إلى غير رجعة ولن يكون الخارج وسيلة لغلبة في الداخل، خصوصا ان هذه المبادرة أعطيت الوقت اللازم ولم ينجح أصحابها بإقناع الخارج والداخل بها.
الرسالة الثانية: الانتقال إلى الخيار الرئاسي الثالث أصبح ضرورة بعد عام على بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية وعدم تمكُّن اي فريق من انتخاب مرشحه، والشغور أصبح مكلفا وخطرا على لبنان.
الرسالة الثالثة: انّ اي خيار رئاسي لا يعكس ميزان القوى الداخلي لن يحظى بدعم الخارج، ولبنان بأمس الحاجة لهذا الدعم للخروج من أزمته المالية، إذ لا يكفي انتخاب رئيس من دون إصلاحات في الداخل والأهمّ دعم خليجي ليتمكّن من ضخ الأوكسيجين في عروقه المالية الممزقة.
ومعلوم ان الفريق الممانع كان يعوِّل كثيراً على دور الخارج وتحديدا باريس، تحقيقاً لهدفين أساسيين:
الهدف الأول: ان يتمكّن الرئيس إيمانويل ماكرون من إقناع الأمير محمد بن سلمان بالمبادرة الفرنسية الرئاسية، لأنّ ترجمتها على أرض الواقع تتطلّب دعما سعوديا واستطرادا خليجيا كَون باريس غير قادرة على مساعدة لبنان ماليا، وبالتالي الرياض الممر الإلزامي لإنجاح المبادرة الفرنسية.
الهدف الثاني: ان يفتح تأييد الخارج الطريق أمام المطبات السياسية الداخلية، بدءا من تليين مواقف البعض وصولا إلى حسم البعض الآخر لخياراته، وكان جلّ ما يريده الرئيس ماكرون ان يقول الأمير محمد: نُثمِّن الجهود الفرنسية لانتخاب رئيس جديد للبنان.
ولكن هذا الرهان او التعويل اصطدمَ بمقاربة سعودية مختلفة ترى ضرورة ان تشكل الانتخابات الرئاسية مناسبة للتوافق لا تعميق الانقسام، فسقطت المبادرة الفرنسية من دون ان يتبلور التوجُّه البديل، ومع اجتماع الخماسية في الدوحة بدأت معالم هذا البديل بالظهور إلى ان جاء لودريان في زيارته الأخيرة ليُبلغ الجميع بتوجّهَين: وجوب الانتقال إلى الخيار الثالث، ودخول قطر على الخط متكئة على علاقتها المميزة مع إيران التي لا حلّ سوى بإدخالها على خط التفاوض وتحميلها مسؤولية استمرار التعثّر في لبنان.
ومع حسم الخارج لتوجهاته الرئاسية في لبنان باتجاه الخيار الثالث أقفلت الطريق أمام الثنائي الحزبي الشيعي، خصوصا انه عاجز عن تغيير المعطيات الداخلية مع ثلاث كتل أساسية: الكتلة الدرزية الاشتراكية، الكتلة السنية التي لم تحسم موقفها، والكتلة المسيحية مع النائب جبران باسيل الذي يبدو انه لن يدعم انتخاب مرشّح حليفه إلا في حال تأكّدَ من أمرين: ان دعمه يؤدي إلى انتخابه، وان انتخابه يفتح باب المساعدات الخليجية للبنان من أجل ان يدخل إلى سلطة «تبيض ذهباً»، فيما الوقائع أثبتت لباسيل خلاف ذلك تماما، حيث انّ تأييده لن يبدِّل في صورة الشغور، والموقف الخليجي ثابت برفض تكريس واقع غلبة في لبنان ورفض تقديم اي مساعدة في هذه الحالة، ما يعني انّ دعمه لمرشّح الثنائي الحزبي سيؤدي إلى مزيد من تعميق خسائره.
فالموقف الخارجي انتقل من مبادرة لمصلحة الممانعة، إلى موقف انتظاري ومتريِّث، وصولاً إلى داعمٍ لخيار ثالث، والمواقف داخلية بقيت على حالها باستثناء المواقف المتقدمة للبطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي الذي خرج من تعميمه لمسؤولية الشغور إلى وضع هذه المسؤولية على من يمنع انتخاب رئيس بتعطيله جلسات الانتخاب ومنعه الدورات المتتالية، ولم يكتف بهذا القدر بل وَجّه رسالة قوية ضد الحوار بقوله ان الحوار يحصل في الانتخاب وليس من خلال طاولات حوار تفتح الباب أمام أعراف جديدة مخالفة للدستور.
ولم يعد أمام الثنائي سوى الرهان على الوقت ولكن من دون أفق في ظل غياب اي معطيات عن تبدُّل في الموقف السعودي الذي ما زال منذ ما قبل الشغور الرئاسي على الموقف نفسه: لرئيس من خارج الاصطفافات، وأما الرهان المُمانع على المقايضة بين اليمن ولبنان مثلاً فهو خارج التفكير السعودي الذي يتعامل مع كل ملف بملفه وعلى قاعدة تسويات تصبّ في خدمة مشروع الدولة لا تعزيز توجُّه الدويلات المعمّم من قبل طهران.
وبالتوازي مع الموقف الخارجي الحاسم تزكيةً للخيار الثالث، وبالتوازي مع الستاتيكو الداخلي السلبي، ارتسَمت 3 تطورات من الصعب تجاهلها او القفز فوقها:
التطور الأول: مالي، والذي أصبح أمام أشهر قليلة حاسمة، فإمّا انتخاب وانتظام ودعم خارجي، وإما انهيار وفوضى وترسيم جغرافي، والخاسر الأكبر من سقوط الهيكل سيكون «حزب الله» لأنه يُمسك بمفاصل هذا الهيكل منذ العام 2005 كوريث عن حليفه السوري الذي أطبقَ على مفاصل الدولة منذ العام 1990.
التطور الثاني: إقليمي، بعد التفاهم السعودي-الإيراني ولقاء وزير الخارجية الإيراني مع ولي العهد السعودي وتفويض الخماسية لقطر من أجل حلّ العقدة الرئاسية من طهران، وبالتالي أصبح من الصعب على الأخيرة ان تتذرّع بعدم مَونتها على «حزب الله» بالذهاب إلى خيار ثالث، كما انّ تعاونها سيجعلها الدولة السادسة من دون ان تتحوّل الخماسية إلى سداسية.
التطور الثالث: «عقوباتي»، والذي خرج من إطار التلويح إلى الترجمة العملية ليس فقط من خلال ما ورد في بيان اللجنة الخماسية في الدوحة، إنما من خلال ما تسرّب عن مناقشات نيويورك السريعة لجهة وقف الوساطة مع الفريق المعطِّل للانتخابات الرئاسية ووضع العقوبات عليه.
وأي متابعة لمواقف الثنائي الحزبي وإعلامه تفيد وكأنه بدأ بتهيئة بيئته وقواعده بغية الانتقال إلى خيار رئاسي جديد بعد ان أقفلت الأبواب الخارجية والداخلية وتمّ قرعَ الباب الإيراني واقتراب الوضع من الانهيار الكبير، ولكن هل هذا يعني ان الثنائي سلّم بهذه الوقائع وقرّر الانتقال إلى الخيار الثالث، أم انه سيتمسّك بموقفه ومرشحه غير آبه للتداعيات والانعكاسات ومراهناً على سياسة اللعب على حافة الهاوية؟
ولكن حتى اللعب على حافة الهاوية لم يعد يفيد لأنه حشر نفسه في الزاوية، فرهانه على قدرة باريس من أجل تغيير موقف الرياض لم يكن في محله، ورهانه على موافقة باسيل على مرشحه لم يكن في محله أيضا، ولم يحسب جيداً دقة الوضع المالي وخطورته، ولا يفيد بشيء أساساً انتخاب رئيس يؤدي إلى مزيد من الانقسام ولا يفتح أبواب المساعدات، وبالتالي مهما طال الوقت أو قصر لا خيار أمامه سوى الذهاب إلى خيار ثالث او ذهاب البلد إلى وضع جديد.
شارل جبور - الجمهورية