البديل عن لبنان
لماذا دُمّر مرفأ بيروت؟
ولماذا حُجبت صور الأقمار الصناعية عن التحقيق؟
بل ولماذا أُجهض التحقيق من أساسه؟
ثمّ: لماذا دُمّر القطاع المصرفي في لبنان؟
ولماذا أُجهض دور البنك المركزي وجرى تحويله من منقذ إلى متّهم، بل وإلى متورّط أوّل في الانهيار المالي؟
لماذا تحوّل لبنان أو يجري تحويله من دولة رسالة إلى "قصعة" تتناتشها قوى خارجية بأنياب ومخالب داخلية؟
لماذا انهارت المؤسّسات الصحّية التي كانت مشفى للعديد من مرضى شعوب المنطقة؟
لماذا انهارت المؤسّسات التعليمية من المستوى الابتدائي حتى الجامعي بعدما كانت هذه المؤسّسات على مختلف توجّهاتها تستقطب طلّاباً من كلّ دول المنطقة؟
الجواب عند نتنياهو
هناك جواب واحد على هذه الأسئلة يملكه شخص واحد. وهو بنيامين نتانياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية.
في هذا الجواب قال نتانياهو إنّ ثمّة شرقاً أوسط جديداً في طريق التكوين. بل إنّ تكوينه دخل مراحله التنفيذية الأخيرة. وفي هذا الشرق الأوسط الجديد تحتلّ إسرائيل موقع القلب والجسر الذي يربط آسيا بأوروبا برّاً وبحراً وجوّاً.
ما كان لمثل هذا المشروع أن يرى النور من دون التطبيع العربي مع إسرائيل. قبل التطبيع كان على أنابيب النفط السعودي والعراقي أن تسلك الطريق الذي يبعدها عن فلسطين المحتلّة، الأمر الذي أوصلها إلى مرفأي طرابلس في الشمال والزهراني في الجنوب. الآن وبعد التطبيع يُرسم لهذه الأنابيب طريق جديد عبر إسرائيل، ومن إسرائيل إلى أوروبا.
لا يقتصر الأمر على النفط وحده. فالأمر يتعلّق بالتجارة الخارجية البينيّة والعابرة (الترانزيت)، من قلب آسيا في الهند حتى قلب أوروبا (فرنسا وألمانيا)، وبالعكس.
هكذا تطرح إسرائيل ذاتها جسراً بين الشرق والغرب، وهو الدور الذي كان لبنان يقوم به منذ ولادته في عام 1943، وبدأ بالتعثّر في عام 1948 بانفجار المأساة الفلسطينية، ثمّ بسلسلة الانفجارات الداخلية التي لم تكن إسرائيل بعيدة عن أيّ منها. أمّا الآن فقد تحوّل الدور الإسرائيلي من التعطيل إلى الإلغاء، ومن الإلغاء إلى الوراثة.
عندما كان لبنان في الخمسينيات من القرن الماضي يمارس دور الجسر بين الشرق الأوسط والغرب، تحوّل إلى نموذج يُحتذى به. وكانت سنغافورة من الدول التي وجدت نفسها في وضع مماثل بعد انشقاقها عن ماليزيا، فأرسل رئيسها المؤسّس بعثة لدراسة التجربة اللبنانية ووضع مخطّطاً للاقتداء بها.
لكنّ تفجير الصراعات البينيّة لحسابات خارجية عطّل هذا الدور. فكان لا بدّ من إيجاد البديل. وكان البديل الجاهز هو التعطيل، ليس فقط من خلال الاحتلال المباشر والعدوان المتكرّر، لكن من خلال مدّ جسور التفافية على الدور اللبناني إلى حدّ إلغائه، والاستغناء عنه.
نعي لدور الجسر
إنّ تفشيل لبنان الدولة هو نعي لدور الجسر الذي كان لبنان يلعبه بين دول المشرق العربي وأوروبا. غير أنّ العالم العربي وأوروبا لا يستطيعان أن يعيشا من دون جسر. فكانت إسرائيل هي الجسر. وهو ما أعلنه من نيويورك رئيس وزرائها نتانياهو. فمن حيث المبدأ لا يمكن طرح بديل مع استمرار الأصيل. ولكن عندما يتحوّل الأصيل إلى "دولة فاشلة" توجب مصالح الشرق والغرب إيجاد جسر بديل. وقد أعدّت إسرائيل ذاتها لتكون هذا الجسر البديل: تطوير مرفأ حيفا وتدمير مرفأ بيروت. تهديم العلاقات اللبنانية مع العالم العربي، وتطبيع علاقات إسرائيل مع دول هذا العالم شرقاً وغرباً، نسف قواعد الثقة (القضائية والمالية) بالنظام اللبناني وطرح ضمانات ثقة وانفتاح إسرائيلي مدعومة بالموقع الماليّ المعروف الذي تتبوّأه الصهيونية العالمية، وتيئيس العالم في الشرق والغرب من الاعتماد على الجسر اللبناني المتهاوي وتقديم إسرائيل جسراً جديداً موثوقاً به ومؤهّلاً لمتطلّبات الدور الجديد (مرفأ حيفا وشبكة طرق حديثة من البحر الأحمر حتى المتوسط).
في الأربعينيات من القرن الماضي قال بن غوريون، أوّل رئيس حكومة لإسرائيل: أعطني كولونيلاً لبنانياً أُعطِك دولة مسيحية في لبنان. حصلت إسرائيل على الكولونيل (سعد حداد)، لكنّها لم تحصل على لبنان ولا على دولة مسيحية فيه. حتى عندما احتلّته واقتحمت عاصمته في عام 1982 اضطرّت إلى الانسحاب منه مهزومة مدحورة. وكان احتلالها سبباً إضافياً لدفع اللبنانيين نحو المصالحة والوحدة.
في التسعينات من ذلك القرن قال شيمون بيريز رئيس الحكومة في ذلك الوقت إنّ المشروع الاقتصادي التكاملي مع الدول العربية هو الذي سوف يشكّل قاعدة المصالحة والتسوية والسلام في المنطقة. ويحتاج هذا المشروع أوّلاً وقبل كلّ شيء إلى نقل العلاقات العربية مع إسرائيل من المقاطعة إلى التطبيع. ثمّ من التطبيع إلى التكامل. التطبيع تمّ مع معظم الدول العربية، سواء "فوق السجّادة أو تحتها". والآن بدأت مرحلة التكامل. وهو ما أعلنه من نيويورك رئيس الوزراء الإسرائيلي (المكروه حتى داخل إسرائيل) نتانياهو. وقد ذهب في إعلانه إلى حدّ التبشير به.
كان لبنان بتركيبته الإنسانية المتنوّعة وبرسالته القائمة على الوحدة ضمن التعدّد التي يجسّدها ويدعو إليها، يشكّل جبلاً يعترض طريق المشروع الإسرائيلي القائم على الإلغائية والتفوّق العرقي – الديني. تعتقد إسرائيل الآن أنّها أزالت هذا الجبل من الطريق وجعلت من نفسها الجسر البديل بين الشرق والغرب. فهل في قدرة لبنان أن يثبت العكس؟
محمد السماك - اساس ميديا