كيم يونغ أون... أداة حادّة لدى الصين وروسيا في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها ومشاريعها العالمية
عزّزت زيارة الزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ أون للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تحالفاً ثنائياً يبدو مفيداً للطرفين، في إطار المواجهة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية، كما ضدّ التحالفات الأميركية مع اليابان وكوريا الجنوبية. الأهم هو التحالف الثلاثي بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية، الذي ينطوي على رسائل قوية إلى الولايات المتحدة وحلفائها في رباعية "كواد" التي تضمّ الهند، إلى الولايات المتحدة وأستراليا واليابان، في تحالف أمني استراتيجي.
فحوى الرسالة الجديدة هو أنّ الصين وروسيا هما العنوان الرئيسي، إما للجم أو لإطلاق عنان كوريا الشمالية وزعيمها الزئبقي، الشخصية القادرة على إثارة الاضطرابات والتسبّب بمتاعب لا تنحصر في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. هذا تهديد مبطّن يأتي في أعقاب زيارة الرئيس جو بايدن لفيتنام، التي أثارت المزيد من قلق الصين، إضافة إلى غضبها نتيجة إعلان الولايات المتحدة في قمّة العشرين في الهند عن مشروع "الممر الاقتصادي" الضخم الذي يتألف من ممرين منفصلين، أحدهما يربط الهند بالخليج العربي والآخر يربط الخليج العربي بأوروبا- وتعتبره الصين منافساً لمشروع "الحزام والطريق" الذي أطلقته قبل 10 سنوات، ويشكّل بنية تحتية أساسية في استراتيجية الصين البعيدة المدى.
التحالفات الجيو-سياسية الجديدة تُنذر بمواجهات عالمية مجهولة المعالم والأبعاد. الواضح هو أنّ في أيادي الصين وروسيا أداة حادّة وخطيرة في وجه الولايات المتحدة وحلفائها، اسمها كوريا الشمالية، وهذا الثلاثي قادر على تغيير موازين القوى في آسيا والمحيط الهادئ.
الرئيس فلاديمير بوتين خلق لنفسه وضعاً جيداً نتيجة ما أنجزته زيارة الزعيم الكوري الشمالي، أولاً، لأنّ في وسعه أن يخاطب قادة الغرب، خصوصاً الولايات المتحدة بلغة: إذا أردتم تجنّب الاضطراب والمتاعب من دولة قوية ونووية واعتباطية ومزاجية واستفزازية، تعالوا الينا في روسيا والصين. هاتان الدولتان تعملان أكثر فأكثر على توسيع التعاون الاستراتيجي بينهما في منطقة آسيا - المحيط الهادئ، بغضّ النظر عن مواقف الصين من روسيا في حربها الأوكرانية. هذان أمران مختلفان، والتركيز اليوم يقع على توطيد البُعد الاستراتيجي، العسكري والسياسي، بمختلف أدواته- وكوريا الشمالية أداة فائقة الأهمية في التحدّي الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها.
الرئيس الصيني شي جينبينغ سيجتمع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين بين 27 و 29 تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، أثناء زيارة بوتين للمشاركة في احتفائية العشر سنوات على انطلاق مبادرة "الحزام والطريق". الأسبوع المقبل سيتوجّه وزير الخارجية الصيني إلى موسكو، وسط تزايد التنسيق الصيني - الروسي للتعاون العسكري ولمواجهة التحالفات الأميركية في آسيا ومنطقة المحيط الهادئ.
الصين مرتاحة لنتائج لقاءات كيم يونغ أون مع فلاديمير بوتين، لأنّها مزعجة للولايات المتحدة ومخيفة لحلفائها في المنطقة تماماً، لأن كوريا الشمالية هي زناد trigger الرعب لهم. ما يحدث اليوم بين الصين وروسيا هو عبارة عن مزامنة للاستراتيجية العسكرية بينهما Synchronization of military strategies، ليس بمعنى التحالف العسكري التقليدي وإنما بمعناه الحديث الذي ينتقي مواقع التنسيق. كوريا الشمالية تشكّل موقعاً حيوياً في هذا المنعطف.
على الصعيد الثنائي بين روسيا وكوريا الشمالية واجتماع الزعيمين في قاعدة فضائية شرق روسيا، اقترن كلام كيم يونغ أون عن "ارتقاء روسيا لقتال مقدّس لحماية سيادتها وأمنها... ضدّ القوى المهيّمنة" بتعهّده "أننا سنخوض معاً الحرب ضدّ الامبريالية"، اقترن باتفاق صفقة أسلحة لدعم الهجوم الروسي في أوكرانيا وتقديم ذخيرة من ملايين القذائف المدفعية السوفياتية تحتاجها روسيا في دونباس. فكوريا الشمالية هي الدولة الوحيدة التي تعترف بشرعية سيطرة روسيا على أراضٍ أوكرانية- وزعيمها جاهز للمساعدة.
ما حصل عليه كيم يونغ أون من روسيا شمل التعهّد بتطوير جيشه وتحديث الصناعات العسكرية إلى جانب مساعدته في التغلّب على أزمة الغذاء القاتلة في كوريا الشمالية. بهذا التعهّد، تكون روسيا قد وجّهت إلى الأمم المتحدة صفعة لها وللعقوبات التي تفرضها على كوريا الشمالية برسالة: بلّطوا البحر، فروسيا لا تبالي.
روسيا استُبعِدت بعد حربها الأوكرانية عن مختلف المشاريع التي كانت اعتبرت نفسها أساسية فيها، وهي تضع استراتيجية لمواجهة مساعي الغرب لعزلها تماماً في الساحات الدولية. لذلك، إنّها لا تبالي بقرارات الأمم المتحدة، علماً أنّها كانت صوّتت مع فرض عقوبات على كوريا الشمالية.
الصين، من جهتها، باردة الأعصاب لا تكشف عن غضبها، لكنها تتبنّى سياسات هدفها تلقين الدروس أو في بعض الأحيان ممارسة فن العرقلة. مشروع "الممر الاقتصادي" الذي أطلقته قمّة العشرين في الهند - بغياب كل من الرئيسين الصيني والروسي - أزعج الصين كثيراً، إنما ما أثار حفيظتها حالياً هو الشراكة الاستراتيجية التي أبرمها الرئيس الأميركي جو بايدن أثناء زيارته لفيتنام. فهذه لعبة كبيرة، لأنّ فيتنام لا تريد أن تكون جزءاً من مبادرة "الطريق والحزام"، وهي في حاجة إلى هذا الممر الاقتصادي الذي بات جزءاً من الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
مبادرة "الحزام والطريق" تشكّل حجر أساس في استراتيجيتها العالمية. "الممر الاقتصادي" أتى كمشروع اقتصادي براغماتي ليقول إنّ هناك مجالاً لبنية تحتية عالمية من دون الصين. كثيرٌ من الدول سيتبنّى هذه الخدمات اللوجستية لأنّها في مصلحته العمليّة ولفائدته أكثر من خيار "الحزام والطريق". هذا مشروع يعطي الولايات المتحدة والهند دوراً معزّزاً ونفوذاً لدى مجموعة دول مهمّة في منطقة الخليج والشرق الأوسط ومنطقة آسيا - المحيط الهادئ، وهذا لا يعجب الصين التي وجدت استفزازاً لها في توقيت الكشف عنه قبل شهرين من انعقاد قمّة "الحزام والطريق" في تشرين الأول المقبل.
الفارق بين "الحزام والطريق" و"الممر الاقتصادي" هو أنّ الأول صيني محض بأموال صينية وبطبع الصين وحدها عليه، أما الثاني، فإنّه مشروع متعدّد التمويل والأطراف. البعض يرى فيه نيةً سيئة للولايات المتحدة لإضعاف الصين، وخطوة مهمّة في مسيرة الحرب الناعمة ضدّها. البعض الآخر يجد فيه فوائد للدول المعنية فيه، اقتصادية أولاً. ثم هناك من يعتبره مشروع استبعاد لروسيا وإيران، وإحباطاً لمشاريع تضمهما مع الهند في ممر سكك الحديد، إلى الدول الآسيوية عبر بحر قزوين.
موافقة الهند، كأمر واقع، على "قتل" مشروعها مع روسيا وإيران بإعطاء الأولوية لمشروع الممر مع الولايات المتحدة والسعودية والإمارات وأوروبا، إنما يفيد بتغيير في مواقف الهند. هذا المشروع يمكن اعتباره قصة نجاح للولايات المتحدة التي ترى في طياته مشروع تطبيع بين السعودية وإسرائيل، علماً أنّه يمرّ بالأردن ثم بميناء حيفا، الى جانب توطيد العلاقات الأميركية - الهندية المهمّة، في إطار المواجهة الاستراتيجية مع الصين وروسيا.
السعودية والإمارات ليستا في وارد الدخول طرفاً مباشراً في هذه المواجهة الاستراتيجية، وهما قد أوضحتا أنّ التنويع الاستراتيجي بعلاقات جيدة مع الصين لا ينعكس في عداء أو اصطفاف ضدّ الولايات المتحدة التي لها مكانة مميزة لدى الدولتين. هذه دول تتحدّث بلغة مصالح بلادها وليس بلغة التحالفات الاستفزازية، وهي تفتح الباب على تغيير في سياساتها ومواقفها إذا تمّ تلبية مطالبها المنطقية، الثنائية والخليجية، والشرق أوسطية، والدولية.
السعودية لن تعارض السلام مع إسرائيل ولا التطبيع معها، شرط أن تقوم الولايات المتحدة بدفع إسرائيل إلى حلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينية.
مشروع تطوير وتأهيل البنية التحتية وربط الموانئ يعزّز التبادل التجاري بين الأطراف المعنية، علماً أنّ الممر ينطوي على إنشاء سكة حديد وشبكة عابرة للحدود من السفن إلى السكك الحديد، ومدّ خطوط الأنانيب لتصدير واستيراد الكهرباء والهيدروجين، لتعزيز أمن إمدادات الطاقة العالمي. إنّه مشروع ضخم طموح، وهو فعلاً قد يفيد الشرق الأوسط. فهذه هي اللغة الجديدة في العلاقات بين الدول، بدلاً من اللغة العقيمة التي تتبنّى التهديد أسلوباً والممانعة استراتيجية.
لبنان ضحية تلك اللغة العقيمة، لأنّ ميناء بيروت لربما كان مؤهلّاً كجزء من هذا المشروع وليس فقط ميناء حيفا. إلاّ أنّ اللااستقرار ولامركزية القرار السيادي يحولان دون التفكير بميناء بيروت واستفادته من السكك الحديد. بالطبع إنّ تفجير مرفأ بيروت في محاولة اغتيال للعاصمة اللبنانية، يجعله حالياً غير قابل لمشاريع البنية التحتية. أما إذا حدثت معجزة تحرّر لبنان من تسلّط منظومته المتحكِّمة به وبموارده الطبيعية، سيكون مرشّحاً ليكون له نصيب في مثل هذا المشروع البنيوي والحضاري، لأنّ تطبيقه سيستغرق سنوات، وهو قابل للتطوير والتحديث.
راغدة درغام - النهار العربي