"جحيم" الحرّية و"نعيم" العبودية
إنني مع صحافة القيم التي تقدّس الحرّية والمسؤولية. فالحرّية والمسؤولية يتلازمان في عملية بناء المجتمع السليم الخالي من الأمراض الخلقية. الحرّية لا تعني الفوضى المطلقة ولا التفلّت من دون ضوابط، وتحليل المحرّم، وتحريم المحلّل. انّها لصيقة بالإنسان منذ تكوينه، حتى الله اختصّ كائناته البشرية بهامش واسع منها. ألم يقدّم لنا مار توما الأكويني مثالاً على ذلك بقوله: "إنّ الله الذي خلقك من دونك لا يستطيع أن يخلّصك من دونك"؟ وهذا يعني أنّ دور الانسان محوري في تقرير مصيره وتحديد مساره. أولم يقل المسيح في انجيله: "تعرفون الحق والحق يحرّركم"؟
هل تتذكّرون قول عمر بن الخطاب: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احراراً»؟ وقول الإمام علي: «لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حراً»؟ اذاً الحرّية مقدّسة والمساس بها مساس بالعقائد الإيمانية. اما في الادبيات العلمانية، فتحتل موقع الصدارة. ألم يكن شعار الثورة الفرنسية، أم الثورات في التاريخ: «حرّية، مساواة، اخوّة»؟ لقد حلّت الحرّية اولاً في ثالوثها الذي الهم الشعوب، وكان الحافز لها لتحقيق حلمها في التحرّر والانعتاق من العبوديات.
لكن هل يمكن أن يكون هناك طلاق بين الحرّية والحقيقة؟ إنّ اي حرّية مفرغة من الحقيقة تستحيل إلى افتراء، وتحايل، وتحمل في ثناياها مخاطر مدمّرة على الأفراد والمجتمع. والحرّية لا تعني حرّية الشتيمة، والاتهام غير المستند على القرائن والأدلة، ولا اللجوء إلى قواميس الكلمات المبتذلة لتخيّر اقساها وأكثرها ايلاماً في انتقاد شخص لا يشاطرنا الرأي نفسه. إنّ الحرّية الصحيحة هي أن تقول الحقيقة عارية، مجرّدة وبلا رتوش، بأسلوب علمي رصين يضفي الصدقية ويفتح الباب أمام غزو القناعات لا استثارة الغرائز. الحرّية لا تعني قمع حرّية آلاخر بتخوينه، وتسفيهه، وإثارة الشكوك المفتقدة إلى الأدلة حوله.
الحرّية تكون في إماطة اللثام عمّا يُرتكب في حق الوطن والمواطن من انتهاكات ومخازٍ، وليس استخدامها في إسدال الستار عليها. إنّ ممارسة الحرّية فن لا يتقّنه الاً المتمرسون بها. فالحرّية ليست بضاعة جاهزة موضبة برسم الاستيراد والتصدير تُشرى وتُباع غبّ الطلب. إنّها ملكة مندمجة بطبع الإنسان الذي فطر عليه. فليس من قال انا حرّ هو كذلك، وليس كل من تباكى على الحرّية ينتمي إلى ثقافتها، وكثر هم الذين يهتفون لها بألسنتهم ويلعنونها في قبورهم. الحرّية أُسقطت عندما أُخضعت لقاعدة النسبية، وتشظّت عندما زُجّ بها في أزقّة الصراعات، وترنحت عندما حاولوا بناء سور عظيم يفصلها عن المسؤولية. هل هي صورة هيولية او خيالية ما أوردت؟ كلا وألف كلا. إنّها الصورة الواقعية المعراة من أي زيف. إنّها المثل الناطق بما يحصل في أيامنا هذه. ولكن «جحيم» الحرّية و«لظاها» يبقى اكثر قبولاً لدى الناس من «نعيم» العبودية، ولو قُدّمت لنا على طبق من «ماس» الترف، وذهب الفخامة.
جوزف القصيفي - نقيب محرري الصحافة