العسكريون الفارون: معاقبتهم ظلم والعفو عنهم يدمّر المؤسسة
"إما الغرق في عرض البحر، أو إطعام أطفالي". بهذه العبارة، يبرّر العريف محمد مومنة (32 عامًا)، سبب فراره من خدمته في قوى الأمن الداخلي، شعبة المعلومات. فهو الذي قرّر الفرار من الخدمة نتيجة الظروف المعيشيّة الصعبة والتدهور الاقتصادي. وكان قد هاجر بطريقة غير شرعية بأحد قوارب "الموت" المُنطلقة من شواطئ طرابلس، باتجاه السّواحل الأوروبية، وتحديدًا إيطاليا، منذ نحو السنة وأربعة أشهر، بحثًا عن سُبل أفضل لتربية طفليه ولتأمين حياة كريمة لعائلته، وإمدادها بالمال اللازم لتسديد الفاتورة الطبابية لعلاج والدته المُصابة بالسرطان. وهو اليوم يشتغل في شركة تنظيفات إيطالية.
محمد هو واحد من آلاف الفارين من الخدمة في مختلف الأسلاك الأمنيّة، الذي بقي مصيرهم القانوني والأمني مُعلقًا حتى اتخاذ القرار الحاسم بشأنهم، من ناحية التسريح النهائي المرتبط بقرار المحكمة العسكرية، أو من ناحية السماح لهم بالدخول إلى الأراضي اللبنانية عبر المطار وعدم توقيفهم.
"فار" من وجه العدالة؟
في عام 2019، وبعدما تسلل العجز المالي والاقتصادي إلى عمق مؤسسات الدولة، وأدى إلى تدهور قيمة رواتب الموظفين والعناصر الأمنية، حتى لامست في خضم الانهيار الاقتصادي 20 دولاراً أميركياً!
في هذه الفترة تحديدًا، انطلقت "موجة" فرار غير مسبوقة للعناصر العسكرية، نتيجة فقدانهم لقيمة رواتبه ولجميع الضمانات التي اعتمدوا عليها سابقًا، كالضمان الصحي، الطبابة، منح التعليم.. هذه الأسباب وغيرها، أدت إلى فقدان الأمل بأي تحسن ملموس في أوضاعهم المعيشية!
لذلك، قرّر مومنة الفرار. فقام بتأمين مبلغ 4 آلاف دولار أميركي من عدد من رفاقه (علمًا أنه لايزال يستمر بتسديد هذا المبلغ حتى الآن، تقسيطًا على دفعات رمزية)، وحجز لنفسه مقعدًا في أول مركب كان متوجهًا نحو إيطاليا، وذلك بعد نحو عامين من تقديمه طلب "فسخ عقد التطوع" أو التسريح، فرُفض الطلب.
اليوم، لا يطالب محمد سوى بتيسير أوضاعه القانونية، بعدما تم تبليغه من قبل المحكمة العسكرية، بحضور جلسة محاكمته كفارٍ من الخدمة. خصوصًا أنه يعتبر، بأنه عالق خارج بلاده من دون أمل بالعودة إليها، إن لم تتم محاكمته، الأمر الذي قد يعرض أطفاله لخطر فقدان آخر ما تبقى لهم من مصدر دخل.
عقوبة المحكمة العسكرية
وهنا يجب أن نلفت، إلى أن كل فار من الخدمة العسكرية، تكون عقوبته بعد مثوله أمام المحكمة العسكرية، أي وجاهيًا، مخففة. فتترواح مدة توقيفه بين يومين وصولًا إلى 12 يومًا. بينما يُحاكم الفار غيابيًا بأحكام مشددة تتراوح بين 6 و9 أشهر بالحبس مع غرامة مالية، بجرم "الفرار من الخدمة".
من المفترض أن يحصل "الفار"، بعد انتهاء العقوبة على كل المستندات الرسمية المحجوزة لدى مديرية قوى الأمن الداخلي، كجواز السفر والهوية.. أما بما يتعلق بالعمل في دوامات بعد الظهر، التي اعتمدتها شريحة واسعة من العناصر منذ بداية الأزمة الاقتصادية، لتأمين احتياجاتها اليومية، فإن شريحة أخرى اعتبرت بأنها تملك الحق الكامل في التوقف عن الخدمة لدى تقريرها ذلك، لأن هذا القرار يرتبط بشكل مباشر بمصير عائلاتهم ومستقبلهم المهني والمعيشي.
رفض الاستقالة
في السياق نفسه، وبعد حوالى عقد كامل من الخدمة، قرر حمزة مشقة (32 عامًا)، ترك الخدمة وتقديم الاستقالة، بعدما تقدم بمأذونية سفر إلى الإمارات العربية المتحدة، لزيارة زوجته المقيمة هناك. وبعد تلقيه لعرض عمل هناك، قدم طلب "التسريح أو فسخ عقد التطوع"، فرفضت مديرية قوى الأمن الداخلي الطلب. وأصدرت مذكرة بلاغ بحث وتحري بحقه، وحوّل إلى المحكمة العسكرية، وتمّ كسر رتبته عبر المجلس التأديبي من رقيب أول إلى رقيب. فيما بقي هو في الإمارات، خوفًا من توقيفه في المطار لدى وصوله إلى لبنان، في حال قرّر معالجة أوراقه القانونية وحل هذا الأمر، مما قد يفقده مهنته في الإمارات وحريته في لبنان، وهو اليوم يسعى إلى معالجة هذا الأمر، كي يتمكن من الدخول والخروج من الأراضي اللبنانية بحرية مطلقة، وكي يتمكن من زيارة والديه قبل موتهما، ولا يطالب سوى أن توافق المديرية على استقالته، فيعود للإمارات ويكمل حياته بشكل طبيعي.
حلول ملموسة؟
تتضارب الاحصاءات المُتعلقة بالعدد الرسمي للفارين من مديرية قوى الأمن الداخلي. إذ تُشير بعض المصادر أن أعداد الفارين لامست الـ2300 عنصر، الأمر الذي نفته بشكل قاطع مصادر أمنيّة رفيعة المستوى، مُشيرة في حديثها لـ"المدن" أن الرقم لا يتجاوز الألف عنصر فقط (أي بين 800 و900 عنصر).
هذا وأوضحت المصادر الأمنية بأن مديرية قوى الأمن الداخلي تعتبر جميع مطالب العناصر مُحقة، ولكن المصلحة العامة تفرض عليها الحفاظ على المؤسسة وحمايتها من الانهيار. وأشار إلى أنها تلتزم بالقانون، أي بخضوعها لقرارت المحكمة العسكريّة فيما يتعلق بالفارين، وأن الأزمة لا تتوقف عندها، بل تتحملها السلطات اللبنانية في الدرجة الأولى، ويستوجب عليها حلّها سريعًا. فيما أكدت أيضًا بأن هناك الجهود اليومية تبذل بشكل جدي من أجل تحسين أوضاع العناصر، ورفع رواتبهم وتأمين احتياجاتهم.
في النتيجة، يمكن القول أن مديرية قوى الأمن الداخلي لم تُخف حجم الأزمة التي رمت بأثقالها على العناصر العسكرية، وتداعياتها الاقتصادية الخطيرة التي طالت أعلى الرتب في السلك العسكري وصولًا لأدناها، بيد أنها تتوجس من أن يصبح جرم الفرار بحجة الضائقة الاقتصادية هو ذريعة للبعض للتخلي عن هذه المؤسسة. الأمر الذي يطرح نفسه كجدلية عويصة، حيث لا يمكن أن نتجاهل اليوم الحالة الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها العناصر الأمنية والعسكرية في لبنان، وحاجتهم الملحة لإيجاد فرص عمل أخرى. الأمر الذي قد يبرر لهم أحيانًا قرار ترك الخدمة لتأمين احتياجات أطفالهم.
في الخلاصة، ستبقى الدولة اللبنانية هي المُلامة بالدرجة الأولى بسبب سوء إدارتها، ونتيجة الفساد المستشري، وعدم إعطاء هذا الملف الاهتمام المطلوب.
فرح منصور - المدن